نص الرسالة
محددات القراءة الاستراتيجية للمشهد الشرق أوسطي
د. محمد نور الدين الوفائي *
منذ بداية الثورات العربية، تطالعنا كل يوم و عبر وسائل الإعلام و التواصل آلاف الآراء المختلفة و وجهات النظر المتباينة، لكن هذه الكثرة ليست عامل إثراء بقدر ما هي عامل تشتيت و ضبابية و اختلاط للمفاهيم، و أمام هذه الحالة يبدو المشهد معقدا غاية التعقيد و غير قابل للقراءة و الفهم . و يزيد من ضبابية المشهد أمرين ، اولهما هو غياب القراءة الاستراتيجية الشاملة لعموم المشهد على اتساع رقعته الجغرافية و تسارع احداثة و تعدد القوى الفاعلة فيه، و الثاني هو نقص المعلومات ، و اعني بهذا النقص المعلومات المتعلقة بحقيقة مواقف الأطراف و توجهاتها و ما يجري في الغرف المغلقة، و ليس التغيرات الميدانية التي نشاهد احداثها في منازلنا عبر شاشات المحطات الفضائية.
لإزاحة هذه الضبابية لابد من تثبيت مجموعة من المحددات و المتغيرات الاستراتيجية التي تتحكم في سير الأحداث و تبديد مجموعة أخرى من الأوهام و الأساطير السياسية المنتشرة و التي ساهم في نشرها و تعزيزها القراءات المتسرعة لمن يقدمون على الشاشات الفضائية بوصفهم خبراء و محللين و مختصين.
أولى هذه الأوهام و أكبرها هو وهم المؤامرة في نسخه المتعددة، فهناك من يرى الأحداث منذ بداية الثورات العربية و يحللها في إطار مؤامرة كبرى سواء كانت هذه المؤامرة تستهدف الشعوب و حراكها الثورى او كانت تستهدف انظمة و تحالفات بعينها ، او انها مجرد مؤامرة تهدف لنشر الفوضى لا شي سوى ذلك.
الحقيقة هي ان كل منعطفات التاريخ تحتمل التآمر و هذا آمر مفهوم و معروف و قابل للتفسير العقلاني المنطقي، بل و ربما كان هناك مجال لتفسير التوجهات التاريخية الكبرى في إطار رؤية تآمرية يرى اصحابها بأن هناك قوى تتحكم في مفاصل الحركة التاريخية و هذه نظرية في فهم التاريخ لها منطقها الداخلي الخاص الذي يقبله البعض و يرفضه البعض الآخر، لكن ما لا يمكن فهمه او قبوله هو إدراج أحداث كبرى يشارك فيها ملاين البشر في اماكن شتى بتفاصيلها و اوجهها المتعددة و شمولها في إطار نظرية مؤامرة واحدة و كأن هناك من يمسك بخيوط اللعبة و يحركها كيفما يشاء و بالاتجاه الذي يريد.
في الواقع يجب فهم الثورات العربية و ما تلاها من احداث في إطار من تراكمات تاريخية سياسية فكرية اجتماعية قابلة للفهم و التحليل، هذا من جهة، و من جهة اخرى فإن متابعة الصحافة العالمية و الدراسات المتخصصة يفند تماما مقولة – وهم- أن الغرب أو الأمبريالية الأمريكية تدير مؤامرة في الشرق الأوسط، لأن واقع الحال يشير إلى أن هذه القوى قد صدمت بالأحداث و تداعياتها و أنها لا تدري كيف تتعامل معها و أنها فاقدة لأستراتيجية واضحة و محددة تجاهها، بل هي إلى حد كبير مرعوبة و تعيش حالة من التخبط تجاه ما يجري و هذا هو ببساطة سبب الغموض و التناقض في تصرفاتها و مواقفها.
لا يمنع هذا طبعا من أنها عملت جاهدة لاحتواء الأحداث و دفعها بطريقة تتوافق مع مصالحها و توجهاتها و حدت من مسارات معينة و دفعت باتجاه أخرى، و ربما أفلحت في كثير من المنعطفات و فشلت في أخرى و لا يزال المشهد مفتوحا على الكثير من الاحتمالات التي لا يستطيع احد ان يزعم انه متحكم بصيرورتها.
النتيجة الأولى و المحدد الاستراتيجي الأول إذن : إن ما يجري ليس مؤامرة غربية أو شرقية على المنطقة العربية بل هو مسار تاريخي له محدداته الداخلية و الخارجية القابلة للفهم و التحليل، و أن الغرب أو القوى الكبري مشوشة و متخوفة من هذه المتغيرات و لا تمتلك أي استراتيجية متكاملة تجاهها، و هذا التخبط دليل على أن ما يجرى من أحداث و متغيرات أكبر من قدرتها على الإحاطة به.
الوهم الثاني، و هو مرتبط بالوهم الأول، و مفاده أن هذه المؤامرة تهدف إلى تعميق التجزءة و التقسيم العرقي و المذهبي و المناطقي في الشرق الأوسط، و تكاد جملة \" تقسيم المقسم و تجزءة المجزء\" تدور على كل لسان.
لقد ساهمت الأيديولوجية القومية في تعزيز \"فوبيا\" كبرى لدى الشعوب العربية عموما هي أن ديدن القوى الأستعمارية الكبرى العمل على تفتيت و تقسيم الشعب العربي و ضرب الوحدة العربية ( او الشعوب الإسلامية و الوحدة الإسلامية بالنسبة للإسلامين) و هذا أمر لا يخلو من مصداقية تاريخية وسياسيىة، لكن الوهم هو أن تتحول هذه \"الفوبيا \"إلى منظورتفسيري لرؤية كل المتغيرات في المنطقة. لقد ساهمت الدول الإستعمارية في تقسيم المنطقة إلى دويلات خدمة لمصالحها و في إطار مخطط تقسيمي متفق عليه و قابل للإدارة، لكن الذهاب أبعد من ذلك في \" تقسيم المقسم و تجزءة المجزء\" لا يخدم هذه المصالح لأنه سيقود إلى فوضى عارمة أولا، أما ثانيا فإن الإفراط في التفتيت و التقسيم سيؤدي لاحقا و إلى إعادة التشكل و نشوء كيانات جيوسياسية يكون للعوامل الموضوعية من جغرافيا و تاريخ و عقائد و افكار دور في ظهورها أكثر و اكبر من قدرة هذه القوى الاستعمارية على التحكم بها، لذلك فإن التقسيم ليس غايه بحد ذاته، أنما هو و سيلة تخدم غاية، و تنتفي بانتفاء هذه الغاية.
لقد خرجت بعض مراكز الدراسات الغربية أو ربما أفراد معينين ( برنارد لويس مثلا) بمثل هذه التصورات عن تقسيم المنطقة و تفتيتها من جديد و هناك خرائط كثيرة مقترحة لهذا التقسيم يمكن الحصول عليها بسهولة و يسر عن طريق الأنترنت، لكن هذه الثصورات بقيت تصورات نظرية و لم تتحول إلى سياسة معتمدة لأي دولة من الدول الكبرى ، وربما كان هناك بعض المتعصبين في إدارة بوش الابن ممن ينادي بذلك ، لكن سياسة بوش الأبن و حماقاته هي بالذات ما يدفع الغرب ثمنة اليوم.
لقد جاء جورج بوش و فريقه من المحافظين الجدد بتصورات متطرفة دينية المنشأ لإعادة بناء الشرق الأوسط لكنهم لم يلبثوا أن أدركوا خطأهم بعد أن تشتت أحلامهم في صحاري الأنبار. و إن إسقاط نظام صدام حسين في العراق كان الحجر الأول الذي تم إلقاؤه في مستنقع المنظومة السياسية الراكدة في الشرق الأوسط و لعل كل ما حصل بعد ذلك هو ارتدادات بعيدة لذلك الفعل، لقد اعطى جورج بوش بسياساته الحمقاء الدفعة الأولى لسقوط النظام السياسي للمشرق العربي الذي بناه الغرب الاستعماري بعد الحرب العالمية الأولى و حافظ عليه بكل ما يملك من قوة.
المحدد الأستراتيجي الثاني إذن : ليس هناك مخططات مسبقة و معتمدة لزيادة تقسيم و تفتيت المنطقة و ان ما يجرى من تقسيم هو عملية تفكك للنظام السياسي الشرق اوسطي الذي أسس له الغرب بعد الحرب العالمية الأولى و هو مسار يخيف الغرب ولا يسعده . أن الغرب لا يهدف لتقسم المقسم لأن ذلك ببساطة سيكون عامل لنشر الفوضى و الدمار في الشرق الأوسط و ستتضرر جراء ذلك مصالح الغرب بالدرجة الأولى .
ارتباطا بالمؤامرة الهادفة للتقسيم، ينتشر وهم آخر حول ماهية وحقيقة تنظيم الدولة الإسلامية المشهورة باسم \" داعش\" و مفاد هذا الوهم أن هذا التنظيم هو صنيعة استخباراتية لدول مختلفة تتحدد طبيعتها تبعا للراوي، فهناك من يؤكد أن هذا التنظيم صنيعة أمريكية غربية، من أجل خدمة مخطط التقسيم و ضرب دول و تحالفات بعينها. في حين يؤكد آخرين أن هذا التنظيم هو صنيعة مخابرانية إيرانية سورية لضرب قوى الثورة، و يذهب طرف ثالث إلى القول بانه صنيعة مخابراتية تركية قطرية.
إن الحقيقة التي يجب أن نراها للخروج بتقيم واقعي للموقف الإستراتيجي في المشرق العربي هي أن تنظيم الدولة الإسلامية هو نتاج حالة فكرية و سياسية معروفة و معلومة نشأت و تطورت في مراحل متعددة و في ظل ظروف و متغيرات تاريخية موضوعية، و أن هذا التنظيم يعمل تبعا لاستراتيجيته الخاصة و هو جاد جدا في العمل على تحقيقها و أن هذه الاستراتيجية تجد قبولا كبيرا في اوساط المسلمين السنة حتى اليوم بالرغم من كل الحملات الإعلامية المضادة .
أن حدوث اختراقات مخابراتية لهذا التنظيم هو امر وارد كما هو وارد بالنسبة لغيره من التنظيمات و القوى.لكن ذلك لا يغير من الطبيعة الموضوعية لظروف نشأة و تطور هذا التنظيم. الأمر الآخر أن هذا التنظيم يمثل خطرا حقيقيا على المصالح الأمريكية و الغربية و خطرا وجوديا حقيقيا على عدد من دول المنطقة ما يعني خطرا على النظام العالمي برمته، بالتالي فإن العالم سيضطر عاجلا أم آجلا للتعامل مع هذا الخطر بجدية.
إن إعلان التحالف الدولى عاجلا و سريعا و انضواء ما يقارب الخمسين دولة في إطاره هو مؤشر على مصداق هذا التحليل، حتى و لو كان هذا التحالف يفتقد لأستراتيجية واضحة و فاعلة، فإنه سيضطر عاجلا أو آجلا لتطوير استراتيجية شاملة سياسية و أمنية تستجيب لهذا التحدي الكبير و سوف يضطر العالم مرغما لتقديم أثمان سياسية كبرى للمسلمين السنة تحديدا لمحاصرة و عزل هذا التنظيم، و نستيطع القول بأن هذا الاستخلاص يمثل المحدد الأستراتيجي الثالث لمستقبل المنطقة.
من الأمور التي تختلط فيها الحقائق بالتكهنات و الأوهام ، الموقف الأمريكي من المنطقة عموماً و حقيقة الانسحاب الأمريكي منها و النظريات المختلفة لملأ الفراغ. و هل هناك بالفعل تفاهمات أمريكية- إيرانية لتقاسم النفوذ في المنطقة.
و لأن هذا الأمر يبدو بالفعل غامضاً و متحركاً و هو في طور التبلور و الظهور لا بد لنا من تفكيكه إلى أجراء منفصلة.
أولا: هناك بالفعل تراجع للنفوذ الأمريكي و الدور الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، فبعد حروب العراق و افغانستان و بعد الأزمة الاقتصادية الكبيرة التي حصلت عام 2008، تجد الولايات المتحدة نفسها مضطرة لإعادة ترتيب اولوياتها و الاهتمام بمناطق حيوية في أسيا حيث الصعود القوي لاقتصاديات دول كالصين و الهند و و كذلك في قلب اوراسيا و محيط روسيا الحيوي ، بما يضمن لها الاستمرار في زعامتها العالمية.
و قد لفت انتباهي الطريقة التي لخص بها هذا الامر احد الدبلوماسيين الأمريكان مع بداية الثورات العربية في ربيع عام 2011 عندما قال مخاطباً شعوب و دول المنطقة بالشرق الأوسط : \" إن الولايات المتحدة مضطره لتقليص نفوذها في الشرق الاوسط، ليس لدينا ما يكفي من النقود لهذه الحروب المستمرة، لذلك اقول لأعداء الولايات المتحدة ، مبارك لكم، هذا ما كنتم تسعون إلية عبر عقود قد تحقق، أما لأصدقاء الولايات المتحدة فأقول: we are sorry \".
لكن بالطبع علينا أن ندرك أن تراجع و انحسار النفوذ الأمريكي لا يعني غياب الولايات المتحدة الكامل و المفاجئ عن المنطقة و ليس هو انسحابا كيفيا عشوائيا، انما هو عملية تدريجية و انسحاب منظم.
ثانيا : إن انسحاب الولايات المتحدة المنظم من المنطقة يقتضى القيام بترتيبات لملأ الفراغ الحاصل و هذا هو السؤال الأصعب : هل هناك تفاهمات أمريكية أيرانية لتقاسم النفوذ و ضمان استقرار نسبي للمنطقة يضمن للغرب مصالحة المتعددة ؟
و هنا يبرز عامل نقص المعلومات الفادح لما يجري في اللقاءات المغلقة السرية و العلنية بين القوى كسبب رئيسي لعدم القدرة على تقديم اجابة شافية لهذا السؤال. لكن متابعة مجريات الأمور خلال السنوات الماضية يعطينا عدد من المؤشرات الهامة.
لقد كان هناك بالفعل تنسيق و تعاون بين الولايات المتحدة الأمريكية و إيران في الحملة العسكرية الأمريكية على أفغانستان عام 2001 و في الحرب على العراق عام 2003 . و كان هناك تنسيق في عملية الأنسحاب الأمريكي من العراق و افغانستان و قد حظيت أيران بمكاسب كبرى في العراق نتيجة للانسحاب الأمريكي من هناك. لكن يبدو أن كلا الطرفين لم يتوصلا إلى تفاهمات نهائية بهذا الخصوص، خاصة في ظل الأطماع الإيرانية و الرفض الإسرائيلي للدور الإيراني الذي يبدو و كأنه استحواذ على الدور الذي كان يجب ان تقوم به اسرائيل نفسها و فشلت فيه. لكن المفاوضات السرية و العلنية بهذا الخصوص كانت مستمرة.
الثورات العربية و الثورة السورية على وجه الخصوص شكلت تحديا كبيراً للدور الإيراني و النفوذ الإيراني في المنطقة، ولا يسعنا هنا إلا أن نلاحظ الصمت الإمريكي الذي يصل إلى ما هو اعلى من تفهم الموقف الإيراني إلى التواطئ مع إيران و اعطائها كل الفرص الممكنة للحفاظ على نفوذها في سوريا. لكن ما حصل في العراق في حزيران 2014 من زلزال مدوي تمثل في التقدم السريع و القوي لتنظيم الدولة الإسلامية في الموصل و تمدده في صلاح الدين و الأنبار، أسقط كل الأوراق من يد إيران و جعلها تبدو في نظر الأمريكان بمظر العاجز الذي يطالب أكثر بكثير مما يستحق و يزعم ما لا يستطيع تحقيقه.
في لقاء أجراه الصحفي الأمريكي المعروف توماس فريدمان مع الرئيس باراك أوباما عقب سيطرة تنظيم الدولة على الموصل في الثامن من أغسطس 2014 و نشرته صحيفة نيوروك تايمز، قال باراك اوباما في مقابلة هي الأهم بالنسبة للسياسة الشرق أوسطية ما معناه أن إيران قد اخذت فرصتها و فشلت و علينا أن نبحث في ترتيبات جديدة للمنطقة .أما حرفيا فقد قال : \" لم تكن هناك حاجة لوجود قوات أمريكية في العراق لو أن الأغلبية الشيعية لم تهدر الفرصة في تقاسم السلطة مع السنة و الأكراد ...لقد أدرك الإيرانيون أخيراً أن الموقف المتشدد من قبل الشيعة في العراق سوف يفشل على المدى الطويل، و هذا بالمناسبة درس لكل الدول إذا ما استولى القوى على كل المكاسب فلا شك انه سينهار لاحقا\" و حول محاربة تنظيم الدولة الإسلامية قال : \" نحن بحاجة إلى التركيز على المشكلة في نطاقها الأشمل و التي تتلخص في أن هناك أقلية سنية ساخطة في العراق، و هناك أغلبية سنية ساخطة في سورية، أن الغضب السني يمتد من بغداد إلى دمشق..\" و مضى يقول: \" ما لم نتمكن من منح هؤلاء صيغة تلبي تطلعاتهم، فإننا سنواجه الكثير من المشاكل...و السؤال بالنسبة لنا هنا لا ينبغي أن يقتصر على كيفية التصدي ل ( داعش) عسكريا و لكن كيف يمكن التفاهم مع الأغلبية السنية في تلك المنطقة\"
هذا كلام له دلالات استراتيجية خطيرة ، بمعنى ان الفرصة التي حصلت عليها إيران ( وإن لم يسمها مباشرة) لتقاسم النفوذ في المنطقة قد انتهت و أن إيغال إيران في تنفيذ سياسات طائفية مذهبية يهدد بتفجير المنطقة و يفقدها قدرتها على أن تكون عامل استقرار في المنطقة ، و لا اعتقد أن هناك من يرغب في تأسيس اسرائيل جديدة و كبيرة ليقوم برعايتها و الحفاظ على أمنها في ظل الرفض المطلق لمحيطها الإقليمي لها. فإذا ما فشلت إيران في ترتيب اوضاع العراق كيف ستكون قادرة على ترتيب اوضاع المنطقة، و هذا بالفعل تحول استراتيجي كبير و مهم.
السؤال اليوم الذي يقف أمام الولايات المتحدة و التحالف الدولي و العالم برمته هو التالي : ما هو السبيل لملأ الفراغ و تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط؟ و إن الإجابة على هذا السؤال هو الحد الذي سيكون من بعده بداية النهاية لكثير من الأزمات في المنطقة و على رأسها الأزمة السورية، فبمجرد الاتفاق على هذا الأمر لن يبقى للنظام السوري اية فرصة للبقاء و ستضع طائرات التحالف و القوى البرية المتعاونة معه النهاية المنطقية لهذا النظام الدموي القاتل.
ليس هناك من خيارات كثيرة أمام العالم، فإسرائيل عاجزة عن القيام بهذا الدور، و هناك فيتو روسي كبير على تركيا و ربما سعودي و خليجي كذلك ، أما إيران فهي امام خيارين احلاهما مر أما أن تقبل بهزيمتها و هزيمة مشروعها الذي عملت عليه طوال عقود، و أما أن تقفز إلى الأمام في حماقة كبرى لتأخذ بالقوة ما لم تستطع أن تحصل عليه بالسياسة و هذا أمر سيكون له ارتدادات كبيرة و خطيرة.
إن قراءة كل هذه المحددات الاستراتيجية الآنفة يعطينا تصوراً أوليا عن مستقبل المنطقة و نستطيع القول بكل ثقة أن هناك انعطافة استراتيجية كبرى قد حصلت،و سوف نبدأ بتلمس نتائجها في السنوات القادمة و أن تضحيات الشعوب العربية و على رأسها تضحيات الشعب السوري المظلوم لم تذهب هباءً و أن العالم سيكون مضطرا للقبول بترتيبات تتوافق مع التطلعات التاريخية و السياسية لشعوب المشرق العربي، هذا التطلعات التي حاربها العالم لما يزيد من قرن كامل. لكن مقابل هذه التحولات الموضوعية لابد من نضوج ظرف ذاتي يجعل هذا التحول ممكنا، و هو ما لم يحصل بعد.
*- كاتب سوري مختص بالشؤون الاستراتيجية
محددات القراءة الاستراتيجية للمشهد الشرق أوسطي
د. محمد نور الدين الوفائي *
منذ بداية الثورات العربية، تطالعنا كل يوم و عبر وسائل الإعلام و التواصل آلاف الآراء المختلفة و وجهات النظر المتباينة، لكن هذه الكثرة ليست عامل إثراء بقدر ما هي عامل تشتيت و ضبابية و اختلاط للمفاهيم، و أمام هذه الحالة يبدو المشهد معقدا غاية التعقيد و غير قابل للقراءة و الفهم . و يزيد من ضبابية المشهد أمرين ، اولهما هو غياب القراءة الاستراتيجية الشاملة لعموم المشهد على اتساع رقعته الجغرافية و تسارع احداثة و تعدد القوى الفاعلة فيه، و الثاني هو نقص المعلومات ، و اعني بهذا النقص المعلومات المتعلقة بحقيقة مواقف الأطراف و توجهاتها و ما يجري في الغرف المغلقة، و ليس التغيرات الميدانية التي نشاهد احداثها في منازلنا عبر شاشات المحطات الفضائية.
لإزاحة هذه الضبابية لابد من تثبيت مجموعة من المحددات و المتغيرات الاستراتيجية التي تتحكم في سير الأحداث و تبديد مجموعة أخرى من الأوهام و الأساطير السياسية المنتشرة و التي ساهم في نشرها و تعزيزها القراءات المتسرعة لمن يقدمون على الشاشات الفضائية بوصفهم خبراء و محللين و مختصين.
أولى هذه الأوهام و أكبرها هو وهم المؤامرة في نسخه المتعددة، فهناك من يرى الأحداث منذ بداية الثورات العربية و يحللها في إطار مؤامرة كبرى سواء كانت هذه المؤامرة تستهدف الشعوب و حراكها الثورى او كانت تستهدف انظمة و تحالفات بعينها ، او انها مجرد مؤامرة تهدف لنشر الفوضى لا شي سوى ذلك.
الحقيقة هي ان كل منعطفات التاريخ تحتمل التآمر و هذا آمر مفهوم و معروف و قابل للتفسير العقلاني المنطقي، بل و ربما كان هناك مجال لتفسير التوجهات التاريخية الكبرى في إطار رؤية تآمرية يرى اصحابها بأن هناك قوى تتحكم في مفاصل الحركة التاريخية و هذه نظرية في فهم التاريخ لها منطقها الداخلي الخاص الذي يقبله البعض و يرفضه البعض الآخر، لكن ما لا يمكن فهمه او قبوله هو إدراج أحداث كبرى يشارك فيها ملاين البشر في اماكن شتى بتفاصيلها و اوجهها المتعددة و شمولها في إطار نظرية مؤامرة واحدة و كأن هناك من يمسك بخيوط اللعبة و يحركها كيفما يشاء و بالاتجاه الذي يريد.
في الواقع يجب فهم الثورات العربية و ما تلاها من احداث في إطار من تراكمات تاريخية سياسية فكرية اجتماعية قابلة للفهم و التحليل، هذا من جهة، و من جهة اخرى فإن متابعة الصحافة العالمية و الدراسات المتخصصة يفند تماما مقولة – وهم- أن الغرب أو الأمبريالية الأمريكية تدير مؤامرة في الشرق الأوسط، لأن واقع الحال يشير إلى أن هذه القوى قد صدمت بالأحداث و تداعياتها و أنها لا تدري كيف تتعامل معها و أنها فاقدة لأستراتيجية واضحة و محددة تجاهها، بل هي إلى حد كبير مرعوبة و تعيش حالة من التخبط تجاه ما يجري و هذا هو ببساطة سبب الغموض و التناقض في تصرفاتها و مواقفها.
لا يمنع هذا طبعا من أنها عملت جاهدة لاحتواء الأحداث و دفعها بطريقة تتوافق مع مصالحها و توجهاتها و حدت من مسارات معينة و دفعت باتجاه أخرى، و ربما أفلحت في كثير من المنعطفات و فشلت في أخرى و لا يزال المشهد مفتوحا على الكثير من الاحتمالات التي لا يستطيع احد ان يزعم انه متحكم بصيرورتها.
النتيجة الأولى و المحدد الاستراتيجي الأول إذن : إن ما يجري ليس مؤامرة غربية أو شرقية على المنطقة العربية بل هو مسار تاريخي له محدداته الداخلية و الخارجية القابلة للفهم و التحليل، و أن الغرب أو القوى الكبري مشوشة و متخوفة من هذه المتغيرات و لا تمتلك أي استراتيجية متكاملة تجاهها، و هذا التخبط دليل على أن ما يجرى من أحداث و متغيرات أكبر من قدرتها على الإحاطة به.
الوهم الثاني، و هو مرتبط بالوهم الأول، و مفاده أن هذه المؤامرة تهدف إلى تعميق التجزءة و التقسيم العرقي و المذهبي و المناطقي في الشرق الأوسط، و تكاد جملة \" تقسيم المقسم و تجزءة المجزء\" تدور على كل لسان.
لقد ساهمت الأيديولوجية القومية في تعزيز \"فوبيا\" كبرى لدى الشعوب العربية عموما هي أن ديدن القوى الأستعمارية الكبرى العمل على تفتيت و تقسيم الشعب العربي و ضرب الوحدة العربية ( او الشعوب الإسلامية و الوحدة الإسلامية بالنسبة للإسلامين) و هذا أمر لا يخلو من مصداقية تاريخية وسياسيىة، لكن الوهم هو أن تتحول هذه \"الفوبيا \"إلى منظورتفسيري لرؤية كل المتغيرات في المنطقة. لقد ساهمت الدول الإستعمارية في تقسيم المنطقة إلى دويلات خدمة لمصالحها و في إطار مخطط تقسيمي متفق عليه و قابل للإدارة، لكن الذهاب أبعد من ذلك في \" تقسيم المقسم و تجزءة المجزء\" لا يخدم هذه المصالح لأنه سيقود إلى فوضى عارمة أولا، أما ثانيا فإن الإفراط في التفتيت و التقسيم سيؤدي لاحقا و إلى إعادة التشكل و نشوء كيانات جيوسياسية يكون للعوامل الموضوعية من جغرافيا و تاريخ و عقائد و افكار دور في ظهورها أكثر و اكبر من قدرة هذه القوى الاستعمارية على التحكم بها، لذلك فإن التقسيم ليس غايه بحد ذاته، أنما هو و سيلة تخدم غاية، و تنتفي بانتفاء هذه الغاية.
لقد خرجت بعض مراكز الدراسات الغربية أو ربما أفراد معينين ( برنارد لويس مثلا) بمثل هذه التصورات عن تقسيم المنطقة و تفتيتها من جديد و هناك خرائط كثيرة مقترحة لهذا التقسيم يمكن الحصول عليها بسهولة و يسر عن طريق الأنترنت، لكن هذه الثصورات بقيت تصورات نظرية و لم تتحول إلى سياسة معتمدة لأي دولة من الدول الكبرى ، وربما كان هناك بعض المتعصبين في إدارة بوش الابن ممن ينادي بذلك ، لكن سياسة بوش الأبن و حماقاته هي بالذات ما يدفع الغرب ثمنة اليوم.
لقد جاء جورج بوش و فريقه من المحافظين الجدد بتصورات متطرفة دينية المنشأ لإعادة بناء الشرق الأوسط لكنهم لم يلبثوا أن أدركوا خطأهم بعد أن تشتت أحلامهم في صحاري الأنبار. و إن إسقاط نظام صدام حسين في العراق كان الحجر الأول الذي تم إلقاؤه في مستنقع المنظومة السياسية الراكدة في الشرق الأوسط و لعل كل ما حصل بعد ذلك هو ارتدادات بعيدة لذلك الفعل، لقد اعطى جورج بوش بسياساته الحمقاء الدفعة الأولى لسقوط النظام السياسي للمشرق العربي الذي بناه الغرب الاستعماري بعد الحرب العالمية الأولى و حافظ عليه بكل ما يملك من قوة.
المحدد الأستراتيجي الثاني إذن : ليس هناك مخططات مسبقة و معتمدة لزيادة تقسيم و تفتيت المنطقة و ان ما يجرى من تقسيم هو عملية تفكك للنظام السياسي الشرق اوسطي الذي أسس له الغرب بعد الحرب العالمية الأولى و هو مسار يخيف الغرب ولا يسعده . أن الغرب لا يهدف لتقسم المقسم لأن ذلك ببساطة سيكون عامل لنشر الفوضى و الدمار في الشرق الأوسط و ستتضرر جراء ذلك مصالح الغرب بالدرجة الأولى .
ارتباطا بالمؤامرة الهادفة للتقسيم، ينتشر وهم آخر حول ماهية وحقيقة تنظيم الدولة الإسلامية المشهورة باسم \" داعش\" و مفاد هذا الوهم أن هذا التنظيم هو صنيعة استخباراتية لدول مختلفة تتحدد طبيعتها تبعا للراوي، فهناك من يؤكد أن هذا التنظيم صنيعة أمريكية غربية، من أجل خدمة مخطط التقسيم و ضرب دول و تحالفات بعينها. في حين يؤكد آخرين أن هذا التنظيم هو صنيعة مخابرانية إيرانية سورية لضرب قوى الثورة، و يذهب طرف ثالث إلى القول بانه صنيعة مخابراتية تركية قطرية.
إن الحقيقة التي يجب أن نراها للخروج بتقيم واقعي للموقف الإستراتيجي في المشرق العربي هي أن تنظيم الدولة الإسلامية هو نتاج حالة فكرية و سياسية معروفة و معلومة نشأت و تطورت في مراحل متعددة و في ظل ظروف و متغيرات تاريخية موضوعية، و أن هذا التنظيم يعمل تبعا لاستراتيجيته الخاصة و هو جاد جدا في العمل على تحقيقها و أن هذه الاستراتيجية تجد قبولا كبيرا في اوساط المسلمين السنة حتى اليوم بالرغم من كل الحملات الإعلامية المضادة .
أن حدوث اختراقات مخابراتية لهذا التنظيم هو امر وارد كما هو وارد بالنسبة لغيره من التنظيمات و القوى.لكن ذلك لا يغير من الطبيعة الموضوعية لظروف نشأة و تطور هذا التنظيم. الأمر الآخر أن هذا التنظيم يمثل خطرا حقيقيا على المصالح الأمريكية و الغربية و خطرا وجوديا حقيقيا على عدد من دول المنطقة ما يعني خطرا على النظام العالمي برمته، بالتالي فإن العالم سيضطر عاجلا أم آجلا للتعامل مع هذا الخطر بجدية.
إن إعلان التحالف الدولى عاجلا و سريعا و انضواء ما يقارب الخمسين دولة في إطاره هو مؤشر على مصداق هذا التحليل، حتى و لو كان هذا التحالف يفتقد لأستراتيجية واضحة و فاعلة، فإنه سيضطر عاجلا أو آجلا لتطوير استراتيجية شاملة سياسية و أمنية تستجيب لهذا التحدي الكبير و سوف يضطر العالم مرغما لتقديم أثمان سياسية كبرى للمسلمين السنة تحديدا لمحاصرة و عزل هذا التنظيم، و نستيطع القول بأن هذا الاستخلاص يمثل المحدد الأستراتيجي الثالث لمستقبل المنطقة.
من الأمور التي تختلط فيها الحقائق بالتكهنات و الأوهام ، الموقف الأمريكي من المنطقة عموماً و حقيقة الانسحاب الأمريكي منها و النظريات المختلفة لملأ الفراغ. و هل هناك بالفعل تفاهمات أمريكية- إيرانية لتقاسم النفوذ في المنطقة.
و لأن هذا الأمر يبدو بالفعل غامضاً و متحركاً و هو في طور التبلور و الظهور لا بد لنا من تفكيكه إلى أجراء منفصلة.
أولا: هناك بالفعل تراجع للنفوذ الأمريكي و الدور الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، فبعد حروب العراق و افغانستان و بعد الأزمة الاقتصادية الكبيرة التي حصلت عام 2008، تجد الولايات المتحدة نفسها مضطرة لإعادة ترتيب اولوياتها و الاهتمام بمناطق حيوية في أسيا حيث الصعود القوي لاقتصاديات دول كالصين و الهند و و كذلك في قلب اوراسيا و محيط روسيا الحيوي ، بما يضمن لها الاستمرار في زعامتها العالمية.
و قد لفت انتباهي الطريقة التي لخص بها هذا الامر احد الدبلوماسيين الأمريكان مع بداية الثورات العربية في ربيع عام 2011 عندما قال مخاطباً شعوب و دول المنطقة بالشرق الأوسط : \" إن الولايات المتحدة مضطره لتقليص نفوذها في الشرق الاوسط، ليس لدينا ما يكفي من النقود لهذه الحروب المستمرة، لذلك اقول لأعداء الولايات المتحدة ، مبارك لكم، هذا ما كنتم تسعون إلية عبر عقود قد تحقق، أما لأصدقاء الولايات المتحدة فأقول: we are sorry \".
لكن بالطبع علينا أن ندرك أن تراجع و انحسار النفوذ الأمريكي لا يعني غياب الولايات المتحدة الكامل و المفاجئ عن المنطقة و ليس هو انسحابا كيفيا عشوائيا، انما هو عملية تدريجية و انسحاب منظم.
ثانيا : إن انسحاب الولايات المتحدة المنظم من المنطقة يقتضى القيام بترتيبات لملأ الفراغ الحاصل و هذا هو السؤال الأصعب : هل هناك تفاهمات أمريكية أيرانية لتقاسم النفوذ و ضمان استقرار نسبي للمنطقة يضمن للغرب مصالحة المتعددة ؟
و هنا يبرز عامل نقص المعلومات الفادح لما يجري في اللقاءات المغلقة السرية و العلنية بين القوى كسبب رئيسي لعدم القدرة على تقديم اجابة شافية لهذا السؤال. لكن متابعة مجريات الأمور خلال السنوات الماضية يعطينا عدد من المؤشرات الهامة.
لقد كان هناك بالفعل تنسيق و تعاون بين الولايات المتحدة الأمريكية و إيران في الحملة العسكرية الأمريكية على أفغانستان عام 2001 و في الحرب على العراق عام 2003 . و كان هناك تنسيق في عملية الأنسحاب الأمريكي من العراق و افغانستان و قد حظيت أيران بمكاسب كبرى في العراق نتيجة للانسحاب الأمريكي من هناك. لكن يبدو أن كلا الطرفين لم يتوصلا إلى تفاهمات نهائية بهذا الخصوص، خاصة في ظل الأطماع الإيرانية و الرفض الإسرائيلي للدور الإيراني الذي يبدو و كأنه استحواذ على الدور الذي كان يجب ان تقوم به اسرائيل نفسها و فشلت فيه. لكن المفاوضات السرية و العلنية بهذا الخصوص كانت مستمرة.
الثورات العربية و الثورة السورية على وجه الخصوص شكلت تحديا كبيراً للدور الإيراني و النفوذ الإيراني في المنطقة، ولا يسعنا هنا إلا أن نلاحظ الصمت الإمريكي الذي يصل إلى ما هو اعلى من تفهم الموقف الإيراني إلى التواطئ مع إيران و اعطائها كل الفرص الممكنة للحفاظ على نفوذها في سوريا. لكن ما حصل في العراق في حزيران 2014 من زلزال مدوي تمثل في التقدم السريع و القوي لتنظيم الدولة الإسلامية في الموصل و تمدده في صلاح الدين و الأنبار، أسقط كل الأوراق من يد إيران و جعلها تبدو في نظر الأمريكان بمظر العاجز الذي يطالب أكثر بكثير مما يستحق و يزعم ما لا يستطيع تحقيقه.
في لقاء أجراه الصحفي الأمريكي المعروف توماس فريدمان مع الرئيس باراك أوباما عقب سيطرة تنظيم الدولة على الموصل في الثامن من أغسطس 2014 و نشرته صحيفة نيوروك تايمز، قال باراك اوباما في مقابلة هي الأهم بالنسبة للسياسة الشرق أوسطية ما معناه أن إيران قد اخذت فرصتها و فشلت و علينا أن نبحث في ترتيبات جديدة للمنطقة .أما حرفيا فقد قال : \" لم تكن هناك حاجة لوجود قوات أمريكية في العراق لو أن الأغلبية الشيعية لم تهدر الفرصة في تقاسم السلطة مع السنة و الأكراد ...لقد أدرك الإيرانيون أخيراً أن الموقف المتشدد من قبل الشيعة في العراق سوف يفشل على المدى الطويل، و هذا بالمناسبة درس لكل الدول إذا ما استولى القوى على كل المكاسب فلا شك انه سينهار لاحقا\" و حول محاربة تنظيم الدولة الإسلامية قال : \" نحن بحاجة إلى التركيز على المشكلة في نطاقها الأشمل و التي تتلخص في أن هناك أقلية سنية ساخطة في العراق، و هناك أغلبية سنية ساخطة في سورية، أن الغضب السني يمتد من بغداد إلى دمشق..\" و مضى يقول: \" ما لم نتمكن من منح هؤلاء صيغة تلبي تطلعاتهم، فإننا سنواجه الكثير من المشاكل...و السؤال بالنسبة لنا هنا لا ينبغي أن يقتصر على كيفية التصدي ل ( داعش) عسكريا و لكن كيف يمكن التفاهم مع الأغلبية السنية في تلك المنطقة\"
هذا كلام له دلالات استراتيجية خطيرة ، بمعنى ان الفرصة التي حصلت عليها إيران ( وإن لم يسمها مباشرة) لتقاسم النفوذ في المنطقة قد انتهت و أن إيغال إيران في تنفيذ سياسات طائفية مذهبية يهدد بتفجير المنطقة و يفقدها قدرتها على أن تكون عامل استقرار في المنطقة ، و لا اعتقد أن هناك من يرغب في تأسيس اسرائيل جديدة و كبيرة ليقوم برعايتها و الحفاظ على أمنها في ظل الرفض المطلق لمحيطها الإقليمي لها. فإذا ما فشلت إيران في ترتيب اوضاع العراق كيف ستكون قادرة على ترتيب اوضاع المنطقة، و هذا بالفعل تحول استراتيجي كبير و مهم.
السؤال اليوم الذي يقف أمام الولايات المتحدة و التحالف الدولي و العالم برمته هو التالي : ما هو السبيل لملأ الفراغ و تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط؟ و إن الإجابة على هذا السؤال هو الحد الذي سيكون من بعده بداية النهاية لكثير من الأزمات في المنطقة و على رأسها الأزمة السورية، فبمجرد الاتفاق على هذا الأمر لن يبقى للنظام السوري اية فرصة للبقاء و ستضع طائرات التحالف و القوى البرية المتعاونة معه النهاية المنطقية لهذا النظام الدموي القاتل.
ليس هناك من خيارات كثيرة أمام العالم، فإسرائيل عاجزة عن القيام بهذا الدور، و هناك فيتو روسي كبير على تركيا و ربما سعودي و خليجي كذلك ، أما إيران فهي امام خيارين احلاهما مر أما أن تقبل بهزيمتها و هزيمة مشروعها الذي عملت عليه طوال عقود، و أما أن تقفز إلى الأمام في حماقة كبرى لتأخذ بالقوة ما لم تستطع أن تحصل عليه بالسياسة و هذا أمر سيكون له ارتدادات كبيرة و خطيرة.
إن قراءة كل هذه المحددات الاستراتيجية الآنفة يعطينا تصوراً أوليا عن مستقبل المنطقة و نستطيع القول بكل ثقة أن هناك انعطافة استراتيجية كبرى قد حصلت،و سوف نبدأ بتلمس نتائجها في السنوات القادمة و أن تضحيات الشعوب العربية و على رأسها تضحيات الشعب السوري المظلوم لم تذهب هباءً و أن العالم سيكون مضطرا للقبول بترتيبات تتوافق مع التطلعات التاريخية و السياسية لشعوب المشرق العربي، هذا التطلعات التي حاربها العالم لما يزيد من قرن كامل. لكن مقابل هذه التحولات الموضوعية لابد من نضوج ظرف ذاتي يجعل هذا التحول ممكنا، و هو ما لم يحصل بعد.
*- كاتب سوري مختص بالشؤون الاستراتيجية