منذ بدايات الثورة السورية المباركة خرج إلينا رهط غير قليل من البشر على ضفتي الانقسام الاجتماعي والسياسي الذي أحدثته الثورة لتصيد الأخطاء والنفخ فيها والزعم بأنها الأصل وأن كل أمر جيد في سياق الثورة هو الاستثناء. عبر ذلك بقوة عن موقف جمهور النظام وعبيده لأن الثورة بالنسبة إليهم شر مطلق، إذ يعلمون أن نتيجة الثورة لن تكون إلا باستعادة الشرائح الأوسع للمجتمع السوري لحقوقها وقوتها واعتلائها مجددا منصة التوجيه لمستقبل الدولة والمجتمع. ويعلمون أيضاً أنه مهما كانت ذاكرة الشعوب قصيرة إلا أن وعيها السياسي المتفجر لن يسمح باستغلال حبها لوطنها وبعدها عن الشعور الطائفي البغيض في تمكين عصاباتهم المستترة بلبوس القومية والوطنية في إركاعها مجدداً.
وقد أخذت المواقع الإلكترونية السورية الموالية للنظام وبعض تلك التي تدعي الحياد بتداول ونشر كل ما يمكن تصنيفه بالإشكالي أو غير الشعبي أو حتى ما ادعت بأنه لا إنساني في الثورة السورية، ودأبت على استعمال مصطلحات وتعابير بعينها وإعادتها وتكرارها بمناسبة ودون مناسبة حتى نجحت في إدخالها في التداول الإعلامي اليومي في المحطات الفضائية والمواقع الاجتماعية كتعابير "الدولة السورية" وكأن ما بقي من النظام الحاكم هو الدولة السورية أو محاربة "الإرهاب" ومحاربة "آكلي القلوب" وحماية الأقليات إلى آخر تلك القائمة التي أصبحت معروفة وممجوجة من كثرة الاستعمال. ولكن الطامة الكبرى أن يعيد بعض من الثوريين أنفسهم أو المحسوبين على الثورة مصطلحات وتعابير مشابهة في معرض التعبير عن حنقهم أو إحباطهم لما آلت إليه أوضاع الثورة في بداية سنتها الرابعة.
لكن أكثر ما يؤلم أن معظم من يحاول الاصطياد في الماء العكر والاستغلال البشع للأخطاء هم مجموعة من الرماديين الذين لم يقفوا أبداً على ضفة الثورة، بل رأوها حدثاً مقيتاً أسود ودافعوا بقوة عن مكاسب المرحلة البائدة التي أوصلتهم إلى ما كانوا عليه من مركز اجتماعي أو اقتصادي أو وظيفي، هؤلاء لم يسموا الأشياء بأسمائها حتى الآن بعد أكثر من ثلاث سنوات على بدء الانتفاضة. هؤلاء كانوا يرونها ثورة ريف جديدة أسوأ بكثير مما سمي بثورة البعث البائدة عام 1963، بل يرونها أدنى من أن تسمى ثورة أصلاً، وتحالفهم العضوي مع الفكر الدكتاتوري لم يمكنهم من رؤية فجر جديد يظهر في الأفق يعيد للشعب السوري وللمواطن السوري كرامته المهدورة في فروع التحقيق الأمنية. يلبس هؤلاء لبوس التعبير عن "الأغلبية الصامتة" وهم في الحقيقة لا يتحدثون إلا عن أنفسهم، فتراهم يعلنون استغرابهم وإدانتهم لمشهد هنا أو هناك ارتكب فيه أحد الثوار خطأ كبيراً كان أو صغيراً لكنهم يشيحون بنظرهم عن المشهد الأكبر ولا يلعنون نظام الأسد الذي سحق هذا الشعب حتى أوصله إلى ما هو فيه. لا يعلن هؤلاء تضامنهم مع الشهداء وأبناء الشهداء إلا من خلال عبارات نفاق سخيفة تتحدث عن "جرح الوطن" وعن "ضحايا طرفي النزاع". هؤلاء لم يسموا مجرم القرن وسفاح سوريا، إلا مسبوقاً بلقب الرئيس فلا يخرجون من فضاء حواشيه المستعبدين الصاغرين في الذل والهوان.
وفي حين كانوا قابعين في الظلام راضين بالمكوث حتى يتنتصر أحد الطرفين على الآخر خرجوا اليوم إلى العمل العام يبنون على موقف مائع متبدل، يميلون إلى كل طرف يشتري موقفهم سواء أكان ذلك من طرف سوري غير حريص على الثورة أو طرف خارجي يبحث عن سوريين ليروجوا معه مقاربات تسعى لإنهاء الثورة. ولا بأس بين فينة وأخرى أن يجروا اجتماعاً هنا أو هناك يحشدون فيه بعض الأسماء من دراويش الثورة ليذروا الرماد في العيون ويدعوا وقوفهم في قلب الحدث الثوري.
ثمة ظواهر سلبية كثيرة في الثورة السورية لمن أراد تصيّد الأخطاء والعثرات ولمن أراد صرف النظر عن جوهر القضية؛ قضية الشعب الذي خرج من أجل التغيير السياسي الذي يضمن له حريته وكرامته. لم تخرج جماهير الشعب منذ الشهور الأولى للثورة رياء وتكلفاً، بل خرجت لأنها تعاني في عميق حريتها وكرامتها ولم تستمر الثورة سلمية ومسلحة من أجل هذا الفصيل المعارض أو ذلك الائتلاف حتى تتحمل الثورة وفكرها خللهم وما ارتكبوا من أخطاء وإنما استمرت لأن السفاح وعصابته من الكائنات الدونية والطائفية أرادت كسر إرادة هذا الشعب ومنعه بالقهر والعنف من اختيار طريقه الجديد.
إن ما يقوم به الثوار على مختلف الجبهات له عنوان واحد لا ينبغي صرف نظر العالم عنه أبداً، حتى وإن كان لدى كثير منا شعور كبير بالإحباط والاكتئاب من أداء بعض الفئات المحسوبة على الثورة. فإن كان اقتحام الباستيل من قبل الحشود في في الرابع عشر من تموز عام 1789 اعتبر عيدا للثورة الفرنسية لما جسده ذلك المكان من ظلم وقهر، مع أنه خلا عندها، إلا من بضعة مساجين جنائيين، فإن معتقلاتنا وسجوننا في سوريا تغص بعشرات بل بمئات الآلاف من سجناء الرأي الذين يقتلون ذبحاً وتعذيباً وتجويعاً على مدار الساعة، فعنوان الحرية لدينا أعلى وأظهر من عناوين ثورات العالم كله، ونحن لا نتحدث هنا عن ظواهر افتراضية أو فيسبوكية بل عن أدنى درجات الانحطاط البشري يمثله ذلك الكائن الدوني القاتل الذي يمثل السلطة اليوم في سوريا. وقوى الثورة في تصديها لهذا الفكر الدوني الممعن في عبادة الأشخاص والقتل على مذبحهم، إنما تقوم بأنبل عمل باسم الإنسانية جمعاء.
الثورة السورية ثورة عز وكرامة ومشهدها يغص بصور نقية وصافية، ولكن ليس بالضرورة أن ينسحب ذلك الصفاء الملائكي على كل تفصيل فيها، لأن الثورة تفجر للغضب والطاقات بآن معاً وهذا التفجر الكبير لا يجري وفقاً لدليل تشغيل منضبط فالثورة الملائكية الصافية...الثورة على الكاتالوغ هي من المستحيلات كالغول والعنقاء تماماً، ومن الظلم الهائل التغاضي عن الصورة العامة والتركيز على ما يساعد الرماديين وأعداء الثورة في سعيهم لتقويضها ولإيجاد أدوار مشبوهة على أطلالها إن استطاعوا لذلك سبيلاً.