عن عمر ناهز 85 عاماً رحل مساء أمس فنان الثورة الفلسطينية أبو عرب (ابراهيم محمد صالح) الذي ألّف ولحّن عشرات القصائد الوطنية وأغاني العتابا والمواويل، وغنى لألق الثورة وزغردة الجراح، للشهداء والأسرى والسجناء، لمعارك الكرامة، للانتصار والمرارات، وحمل في صوته الشامخ كشموخ جبال فلسطين صورة وطن من أجمل الأوطان، وبعد غياب أكثر من ستين عاماً عن قريته "الشجرة" الواقعة في قضاء "طبريا" داخل أراضي فلسطين المحتلة عام 1948 عاد أبو عرب إليها منذ شهور مثقلاً بذكريات الماضي ومشاعر الأمل بحتمية العودة ولكنه ودع محبوبته فلسطين على فراش المرض في حمص المكلومة اليوم دون أن يكحل ناظريه برؤية فلسطينه مرة ثانية.
ولد أبوعرب في "الشجرة" القرية التي ولد فيها أيضاً الفنان الشهيد (ناجي العلي) وتربطهما صلة قرابة.
وفي هذه القرية التي كان يبلغ سكانها 800 شخص وسقط من أبنائها 28 شهيداً في يوم واحد تفتحت عيناه على الاجتياح الإسرائيلي فنزح مع أهله إلى قرية "كفر كنا" القريبة، ومن هناك كان النزوح الثاني إلى مدينة "بنت جبيل" اللبنانية ثم إلى سوريا (مدينة حمص) حيث استقر إلى أن وافاه الأجل.
وقبل وفاته بسنوات أجرى كاتب هذه السطور معه حواراً حول بعض تفاصيل بداياته ونضاله ودفاعه عن التراث الفلسطيني وهنا جوانب منه:
*عن بداياته الفنية يقول أبوعرب
- يوم افتُتحت إذاعة فلسطين من القاهرة عام 1959 دُعيت للعمل فيها وكان مديرها " فؤاد ياسين " قد استحدث برنامجاً بعنوان "مكاتيب وأهازيج" كان موجهاً للأرض المحتلة، وفي هذا البرنامج سجلت عدداً كبيراً من الأغاني الشعبية التي كانت تعبر عن الحنين والوطن والعودة والذكرى، وكانت فكرة هذا البرنامج تقوم على تلقّي رسائل من الشتات والتعليق عليها ووضع أغانٍ مناسبة لها، وفي القاهرة أيضاً شكّلت فرقة حملت اسم "نوح إبراهيم" تيمناً بالشاعرالفلسطيني الكبير الذي استشهد عام 1937 مع الشيخ "عز الدين القسام" ومن أغانيه الشهيرة أغنية (من سجن عكا طلعت جنازي محمد جمجوم وفؤاد حجازي).
وبعد هذه المرحلة أي في عام 1977 انتقلت إلى بيروت للعمل في إذاعة فلسطين الثورة من خلال برنامج (ركن الأغاني) وسجلت ما يقرب من 150 أغنية جميعها من تأليفي وتلحيني وغنائي وشكّلت فرقة جديدة باسم "فلسطين" كانت الفرقة الوحيدة في الثورة الفلسطينية التي كانت تزور المقاتلين في الخنادق الأولى وتعرضت مع أفراد الفرقة للقصف الإسرائيلي أكثر من مرة في "راشيا الفخار" بالجنوب اللبناني و"قلعة شقيف"، كانت الفرقة تخرج لإقامة حفلات للمقاتلين لا تتضمن أغان عاطفية وإنما أغان ثورية حماسية، وكنت أسهر مع الفدائيين الأبطال الذين يريدون تنفيذ عمليات استشهادية داخل فلسطين المحتلة طوال الليل فأبث في نفوسهم مشاعر الحماس والفداء والتضحية، وكانت هذه الفرقة المؤلفة من عدد من الفنانين الشباب تبدو وكأنها مجندة في صفوف الثورة الفلسطينية رغم أنها تطوعية دون أي مقابل.
*حصار بيروت
وحول سنوات العنفوان العربي في بيروت وكيف عايشها شخصياً يقول الفنان الراحل:
عند الاجتياح الإسرائيلي لبيروت حُوصرتُ هناك لأكثر من شهر وشهدت استشهاد ابني المهندس "عرب" الذي كان يعمل في شركة السماد الآزوتي في حمص وعندما فُتح باب التطوع للجهاد ضد الإسرائيليين في بيروت أخذ إجازة بلا راتب من عمله والتحق بصفوف الفدائيين هناك، وأثناء قتاله خلف الخطوط مع مجموعة تبلغ 15 فدائياً في منطقة "عين عطا" نفذوا عدة عمليات ناجحة وفي العملية الأخيرة اشتد الحصار عليهم فلم يستطع الخروج من الطوق الذي فرضه عليهم الإسرائيليون واستشهد منهم 9 كان ابني أحدهم وبقيت جثته في بيروت حيث وري الثرى في بلدة "عين عطا" التي استشهد على أرضها.
ويتابع أبو عرب متذكراً أياماً "لا تُنسى": أثناء الحصار الإسرائيلي لبيروت كنت أنام كل ليلة في مكان، إذ كنت مستهدفاً من قبل الكتائب والإسرائيليين على السواء، فكنت أنام أحياناً في مخيم صبرا وأحياناً أخرى في مدرسة أبناء الشهداء في سوق الغرب وفي أماكن أخرى، وكانت تصلني تهديدات بواسطة اللاسلكي من أناس مجهولين كانوا يهددوني بقطع لساني إذا غنيت ثانية في الإذاعة، وبعد انتهاء الحصار جئت إلى سوريا وشكلت فرقة جديدة للفنون الشعبية سميتها (فرقة فلسطين) للتراث الشعبي وبدأت الفرقة بتقديم الأغنيات التراثية الفلسطينية حتى عام 1990، حيث غيرت اسمها إلى فرقة "ناجي العلي" تخليداً لذكرى هذا الفنان الذي أعتقد أنه سيظل في ذاكرة كل عربي حر أبي.
وعن جوانب من صداقته للفنان الشهيد "ناجي العلي" قال أبو عرب:
"الشهيد ناجي العلي رسام الكاريكاتير المعروف ابن عمتي، ولدنا معاً في قرية الشجرة ودرسنا في مدرسة واحدة وخرجنا مع عائلتينا عام النزوح في سيارة واحدة، وسكنا في بنت جبيل على حدود لبنان حوالي شهرين ثم انتقلنا معاً إلى صيدا وفي بيروت كنت أتردد إلى منزله، وهو يزورني في الإذاعة لأن مكتبه في اتحاد الكتاب الفلسطينيين كان قريباً من مكان عملي، وكنت على صلة يومية معه، وبعد استشهاده رثيته في شريط غنائي كامل ومن أشهرأغاني هذا الشريط أغنية أقول فيها:
ما للبلابل خُرس أعيا عليها القول
وصوت الإذاعة بحزن عزا القدس مخجول
والكل يصيح بألم صحيح مش معقول
ناجي العلي يا وطن بيد الأهل مقتول
*شاعر على الرصيف
وحول تجربة فرقته المسماة (ناجي العلي) ودورها في إحياء الذاكرة الفلسطينية قال أبو عرب في اللقاء المذكور:
تتكون فرقتي من خمسة فنانين على العود والناي والكمان والقانون والإيقاع وقد آثرت تقليص هذه الفرقة إلى عدد قليل من أجل سهولة السفر والتنقل أثناء الدعوات الخارجية، ولم أنتمِ أنا أو فرقتي لأي تنظيم من تنظيمات الثورة ليس موقفاً من هذه التنظيمات، ولكن لأنني استقلالي بطبيعتي وأحرص على أن أكون الشاعر الوحيد في الساحة الذي يعطي الجميع ولا يُحسب على أحد، ولقناعتي أن من يقف على (الرصيف) يرى كل شيء في الشارع بينما الذي يسير في الشارع مع الجموع لا يرى إلا الذين حوله.
وبهذه الطريقة حافظت على مكانتي واستقلاليتي وقدرتي على انتقاد الجميع دون محسوبيات أوتبعية والدليل على محافظتي لاستقلاليتي واستقلالية الفرقة أيضاً أنه ليس هناك شهيد بارز في الثورة الفلسطينية إلا رثيته بدءاً من غسان كنفاني ووديع حداد في الجبهة الشعبية وأبو علي إياد وماجد أبو شرار من فتح إلى أبو جهاد الوزير والأخضر العربي من الصاعقة ومحمود الجربوني من القيادة العامة وفتحي الشقاقي ويحيى عياش وأحمد ياسين من حماس وقد أنجزت مؤخراً شريطاً أرثي فيه 28 شهيداً من شهداء انتفاضة الأقصى ومنهم "خليل أبوعلية" و"حسين عبيات" و"أحمد عليان" و"محمد الدرة" و"جمال منصور" و"حمدي أبو حجري" و"فارس عودة" و"إيمان حجو" بقصائد خاصة تخلد اسم كل واحد منهم رغم أنهم خالدون بالتأكيد في ضمير ووجدان كل عربي من المحيط إلى الخليج.
*جمر تحت الرماد
• وفيما إذا كانت الأغنية السياسية أو الثورية باعتقاده لا تزال تمتلك القدرة على الفعل والتأثير في نفوس الناس يستطرد أبو عرب قائلاً:
لا يمكن للأغنية الثورية أو السياسية –كما تسميها في سؤالك– أن تفقد قدرتها على الفعل والتأثير طالما الشعب العربي يعاني الكثير من أشكال الظلم والقهر والحصارات، يمكن أن تنحسر هذه الأغنية قليلاً بسبب حالات اليأس والكبت والإحباط وفقدان الأمل التي يعيشها الإنسان العربي ولكنها تظل كالجمر تحت الرماد تنتظر قليلاً من الهواء لتتأجج وتتقد من جديد.
وفي هذا السياق-والكلام لأبي عرب- أذكر مقابلة أجرتها قناة المستقبل اللبنانية مع الأسيرة "كفاح عفيفي" وزوجها "محمد رمضان" اللذين كانا معتقلين في سجون الاحتلال الصهيوني بعد أن قاما بعملية جريئة ضد القوات الإسرائيلية وجُرحا، وتم استئصال كلية الأسيرة كفاح بالجراحة وكان جنود الاحتلال يقومون بكوي جرحها بأعقاب السجائر حتى تعترف، ولكنها رفضت الاعتراف وعندها قالوا لها سنحكم عليك بالإعدام، وحينما سُئلت في المقابلة المذكورة ما شعورك بعد الحكم عليك بالإعدام قالت للمذيع: لقد كانت معنوياتي عالية ولكن ما رفع معنوياتي أكثر أشعار الفنان أبوعرب فصرت أغني له:
أنا استشهدت يا رفاقي احملوني وعلى أخشاب البارودة اسندوني
واتصلت بالبرنامج وأهديت البطلة كفاح وزوجها البطل محمد رمضان الموال التالي:
مسجون مسجون يا أمي ويابيي اشهدوا يا أرض الوطن ويا ديرتي عليّ
والله ما ذِلْ لو يكووا الجسد بالنار ترتعب مني العدا والقيد بيديي
ومما يثلج صدري أن أكثر المظاهرات التي تجري في فلسطين المحتلة يردد الناس فيها الأهازيج التي كتبتها حيث تصل إليهم عبر الكاسيتات والإذاعات أو الرواية الشفاهية.